المبدعة والوقت

فريده النقاش
حين إختارتني إدارة المسرح التجريبي عام 2005 لأكون عضواً في لجنة التحكيم الدولية كان لابد أن أترك بيتي وأقيم في الفندق الذي يعيش فيه أعضاء اللجنة حيث كنا نلتقي للتشاور كل بضع ساعات . ورغم الإنشغال الكبير جداً بأعمال التحكيم وجدت نفسي خلال الأيام العشرة وقد أنجزت عملاً كثيراً سواء من حيث قراءة مواد لمجلة " أدب ونقد " التي كنت أرأس تحريرها حينذاك أو كتابة الإفتتاحية، فضلا عن إنهاء كتابات كثيرة أخرى كان على إنجازها ولم أكن أجد الوقت تحت وطأة مهماتي المنزلية .
إنشغلت بعد هذه التجربة بقضية المرأة العاملة والوقت . والمرأة المبدعة - رسامة أو روائية سينمائية أو شاعرة ، مسرحية أو ناقدة .
استعدت ما كانت قد كتبته الشاعرة السعودية " فوزية أبو خالد " : "عندما لا يكون عندي وقت إلا لتوزيع جسدي عضواً عضواً على أدواري الحياتية ، دوري كأم تحبل وتلد ترضع وتربي وتكبر ولا تكبر على اللعب مع أطفالها ، بل تخشى أن يكبروا ويتركوها تلعب وتذاكر وتكسر زجاج النافذة وحدها."
"دوري كإمرأة عاملة تعصرها الوظيفة ، ويلوك حبلها الشوكي روتين العمل ، كجارة لابد أن تجامل التجمعات النسوية من حين لحين حتى تتجنب تهم الإسترجال والاستعلاء . دوري كصديقة تحتاج حنان الصديقات ، ولا تستغنى عن غيرة بعضهن الحميدة أو حسدهن السام . دوري كإبنة عليها أن لا تقول أف ، ودوري كزوجة عليها أن تكون إمرأة متزنة ومتزمتة في النهار وغانية خليعة في الليل ، ودور ولود في كل الأوقات . دوري كشغالة وطاهية .. عندها في هذه اللحظة الدهرية الطويلة الطويلة ، وفي هذا العمر القصير القصير تعربد الكتابة في أعصابي بشماته وتشف كعدو لدود متربص وفوق هذا يملك القدرة على البطش والتنكيل تدخل الكتابة برعونة وطيش بيني وبين أدواري "
وتتعامل فوزية شأن غالبية المبدعات مع إنتاجها الأدبي كأنه طفلها وكأنها تواصل الأدوار الأسرية .
حين وقعت على هذا الجزء من شهادة " فوزية " إستدعيت على الفور كل من قصيدة " أدونيس " وهو شاعر عربي كبير ومؤثر جداً في حياتنا الثقافية عن " الوقت " وخطر لي أن أقارن كيف يرى الوقت مبدع رجل بصورة تأملية فلسفية مجردة وكيف يصبح الوقت لدى إمرأة هو كل هذه التفاصيل والإنشغالات التي ترتبط بكونها إمرأة ، وكيف يؤثر ذلك كله على إنتاجها الإبداعي .
وإستدعيت أيضاً في مخيلتي بعض أجمل لوحات الرسامة المصرية الموهوبة " شلبية " التي قدمت فيها نساء منقسمات على أنفسهن " ومكبلات بإرادتهن أو غصباً كأنهن في حالة ترويض للذات وقد علقت واحدة من لوحات النساء المنقسمات " لشلبية " على جدار في مكتبتي تذكرني في الغدو والرواح بالوضع المعقد للنساء ، وحين أنظر إليها تهدأ أعصابي التي تتفتت نتيجة للإنشغالات الصغيرة .
تذكرت أيضاً مقالة " فيرجينيا وولف " الكاتبة والروائية الإنجليزية الرائدة التي جددت في الرواية في أوائل القرن الماضي المقالة بعنوان " غرفة لها " قالت فيها أن لكل فرد آخر في البيت مكان خاص به حتى السائق ما عدا أنا . وعلى هذه الفكرة تقدم القاصة السورية " سمر الشيشيكلي " قصتها مطلوب خصوصية عن إمرأة لا تجد مكاناً تنفرد فيه بنفسها فتذهب لتختبئ في مكان قصي في شرفة المنزل .
وتطرح الروائية الجزائرية " أحلام مستغانمي " قضية الوقت من زاوية أخرى عملية تماماً بدورها حين تقول " كانت طموحاتي النسائية بسيطة لا تتجاوز أن تكون لي خادمة كي أتمكن من التفرغ للكتابة ، وحين كان لها ذلك في فرنسا حيث تعيش " كنت أدفع للخادمة معاشا يساوي بالضبط خمسة أضعاف ما سأربحه فيما بعد من حقوق تلك الرواية بعد سنتين كاملتين من بيعها بنجاح .
ورغم كل هذه الصعوبات ، ورغم قلة عدد المبدعات مقارنة بالرجال فإن المرأة المبدعة في الوطن العربي أنتجت أعمالاً مرموقة في كل المجالات التي أقتحمتها خارجة من ضيق الوقت وشح المال .. والعصف بالحريات ونفوذ الأصوليين والمؤسسات الدينية المعادية للمرأة .
أبدعت النساء في الرواية والقصة ، في المسرح والسينما والفن التشكيلي تماماً . كما أنهن يبدعن الحياة ذاتها حين يجددن الشعب عبر الإنجاب وتربية الأطفال .
لسان حال المبدعات يقول كما قال " نجيب محفوظ " الذي قضى الجزء الأكبر من عمره موظفاً حكومياً ..
ـ لقد استفدت من نشارة الحياة .

الكاتب صوت الناس الاخبارية on 1:55:00 م. يندرج تحت تصنيف , . يمكنك متابعة هذا الموضوع عبر RSS 2.0

المتابعون


hit counter

الأكثر قراءة

2010 BlogNews Magazine. All Rights Reserved. - Designed by SimplexDesign تعريب و تطوير نيوز سبارو للخدمات الإعلامية