محمود عبد الظاهر يكتب: الغول الذي صنعناه


شهادات مرعبة تلك التي سمعناها عن وقائع التحرش الجماعي التي شهدها ميدان التحرير في الأيام الماضية، بداية من يوم 25 يناير 2013 وما بعده، ثم ما حدث بالإسكندرية منذ أيام قليلة للناشطات السياسيات على يد رجال الشرطة أنفسهم. ورغم إدراكي أن مثل هذه الأعمال ممنهجة، ولا تمت لعمليات التحرش التقليدية بصلة، بل هي عمليات إرهاب جنسي منظم لإفراغ الميادين من العنصر النسائي وتخويفهم من عمليات الاغتصاب التي قد تتم في قلب قدس الثورة المصرية وميدانها الطاهر.
ولكني أدرك أيضا كغيري تماما أن التحرش في الشارع المصري صار غولا جبارا لا يجد من يتصدى له، وقل ما تخلو جريدة يومية من حادثة تحرش أو اغتصاب، وصارت جريمة التحرش نفسها فعلا عاديا يمارسه الشباب على سبيل ملء وقت الفراغ.. تلك هي الحقيقة التي تغاضينا عنها طويلا واكتفينا بالمظهر المتدين للمجتمع وانتشار اللحى والحجاب، مطمئنين إلى أخلاق مجتمعنا المؤمن، حتى أفقنا اليوم على صوت هذا الغول وهو يهز أركان المجتمع المصري، لا يخشى ردع قانون أو سطوة مجتمع.
لقد صار التحرش نفسه هو القانون في كل شوارع المحروسة التي أصبحت مستنقع آسن لكل الذئاب والمرضى والمجرمين من المتحرشين. وفي المستقبل القريب لن تجد نساءنا متر واحد آمن لهن في مصر.
ولماذا لا يتوحش غول التحرش وهو يجد دوما من يبرر له إجرامه! فالمتحرش مجرد شاب مسكين فقير لا يستطيع الزواج، محاصر من كل جهة بالصور العارية والأفلام المثيرة ولا يستطيع الزواج. أما النساء المجرمات فيرتدين ملابس مثيرة.. فلماذا إذا لا يتحرش بهن؟ المجتمع صمت طويلا وحين خرج عن صمته برر للمجرم وأدان الضحية! وعليه الآن أن يدفع الثمن من أمنه وطمأنينته وسلمه الاجتماعي.
في عام 1993، نشر عالم الاجتماع والسياسي الأمريكي الشهير «دانييل باتريك موينيهان» مقالا عميق الأثر بعنوان  "النزول بتعريف الانحرافDefining Deviancy Down" خلاصته أنه في المجتمعات التي تتزايد فيها السلوكيات الإجرامية ويرتفع معدل الانحراف- فإن هذا المجتمع، وبدلا من مواجهة هذا الخلل يقوم بإعادة تعريف الانحراف عند مستويات أدنى، ويفرض نوعا من التسامح مع الجرائم البسيطة، بمعنى أنه لو انتشرت جريمة القتل في مجتمع ما فإن هذا المجتمع سينظر إلى جرائم الضرب والتعديات البدنية البسيطة على أنها شيئا عاديا، وبالتالي تصبح فعلا مقبولا من المجتمع ومن ممثلي سلطة القانون على حد سواء، فيتساهل الأمن والقضاء في التعامل مع هذه الجريمة، ويحصل المدانون بها علي أحكام مخففة.. إلخ. وهذا بعينه هو أشنع جريمة يرتكبها مجتمع في حق نفسه.
لو طبقنا هذه النظرية على ظاهرة التحرش والحالة المصرية، سنجد أن مجتمعنا تساهل كثيرا مع جريمة التحرش باعتبارها جريمة بسيطة غير مؤثرة على أمن المجتمع ككل، وبرر للمجرم جريمته، أو قل زينها له، فليس من حقه اليوم أن يصرخ مستنجدا من هذه الجريمة وقد تحولت إلى ظاهرة مجتمعية خطيرة.
وكما يتوقع باتريك؛ فإن المجرم لا يكتفي بجريمته البسيطة ويتجاوزها، فإن المتحرش لم يعتد يكتفي بالتحرش اللفظي، بل وصل الأمر لمحاولات اغتصاب في قبل الشارع نهارا. المقال السابق لم يقدم حلا لمثل هذا المجتمع ولكنه يدعو ضمنيا للضرب بيد من حديد على كل مظاهر الانحراف، مهما كانت بسيطة أو بدت كذلك. أضف لذلك أن مرتكبي جرائم الاغتصاب لم ينشئوا من العدم، بل بدأ انحرافهم بتحرشات بسيطة في الشارع، وتطور الأمر معهم حين لم يجدوا قانون يردعهم أو مجتمع يلفظهم، بل وجدوا من يبرر لهم جريمتهم.. فلماذا لا يتمادوا؟!
المشكلة حقا معقدة وذات أبعاد متعددة، ولكني أؤمن بما لا يدع مجالا للشك بأننا من أنتج غول التحرش ورعاه وبرر له جرائمه، حتى صار لا يخشى شيئا اليوم، ويمارس جرائمه جهارا نهارا، فكيف تطلبوا الآن القضاء على التحرش بعد أن بلغ هذه الدرجة من القوة؟
الحل من وجهة نظري هو التطبيق الصارم للقانون، وتغليظ عقوبات التحرش الجنسي بكافة صوره، وهدم النظريات الاجتماعية الخاطئة التي تبرر هذه الجريمة وتكلل الضحية بعار الذنب، فلا مبرر للتحرش.. لا ارتداء النساء لملابس مثيرة، ولا عجز الشباب عن الزواج، وارتفاع نسبة العنوسة. فالجريمة هي الجريمة، والمجرم يجب أن يعاقب بكل حزم كي لا تصير جريمته سنة بين أقرانه.
نحن نحتاج لجهاز أمني ذو عقيدة مختلفة، يتعامل مع المجرم كمذنب يستحق العقاب، ويتعاطف مع الضحية بما تستحقه، لكن للأسف جهازنا الأمني لا يختلف في تعامله مع حالات التحرش عن المجتمع المريض، فيتعاطف بدوره مع المجرم ويضغط على الضحية بشتى الطرق للتنازل في حالة ما أرادت أخذ حقها ممن انتهك آدميتها بالقانون بحجة أن (دا شاب صغير ومتضعييش مستقبله، أو حصل خير وأنت محصلكيش حاجة اهوه.. إلخ). هذا أن تغاضينا علي أن بعض أفراد الشرطة يتورطون أحيانا في قضايا التحرش والابتزاز الجنسي.
نحن في أشد الحاجة إلى سياسة أمنية جديدة تقوم على التسامح الصفري (Zero Tolerance)، فلا تسامح أو تهاون مع الانحراف مها صغر. نحتاج إلى جهاز أمني يرفع أمن المواطن فوق أي اعتبار، ويبادر إلى تطهير نفسه من العناصر المنحرفة، لا مجرد جهاز قمعي  يحمي السلطان.

الكاتب صوت الناس الاخبارية on 2:34:00 م. يندرج تحت تصنيف . يمكنك متابعة هذا الموضوع عبر RSS 2.0

المتابعون


hit counter

الأكثر قراءة

2010 BlogNews Magazine. All Rights Reserved. - Designed by SimplexDesign تعريب و تطوير نيوز سبارو للخدمات الإعلامية