خميس النقيب يكتب: إرادة التطهير


إرادة التطهير كانت طريق ممهد للتوبة عند الأخيار، وصديق مخلص للأوبة لدى الأطهار، وميض لا ينقطع  بالليل والنهار. أمل لا يخبو في صدر الأحرار، فيتحولون من ذل المعصية إلى عز الطاعة، ومن رق الطمع إلى ظل القناعة، ومن غواية  الشيطان إلى هداية الرحمن، ومن نيران العصيان إلى بستان الإيمان، وميدان التحرير هنا هو نفس الإنسان.. كيف؟!
كان ماعز بن مالك -رضي الله عنه- شاباً من الصحابة متزوج في المدينة، وسوس له الشيطان يوماً وأغراه بجاريه لرجل من الأنصار، فخلا بها عن أعين الناس - وكان الشيطان ثالثهما- فلم يزل يزين كلا منهما لصاحبه حتى وقعا في الزنا, فلما فرغ ماعز من جرمه، تخلى عنه الشيطان.. فبكى وحاسب نفسه ولامها وخاف من عذاب الله، وضاقت عليه حياته، وأحاطت به خطيئته حتى أحرق الذنب قلبه.
ذهب ماعز إلى طبيب القلوب ووقف بين يديه وصاح من حر ما يجد وقال: يا رسول الله إن الأبعد قد زنا.. فطهرني. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء من شقه الآخر فقال: يا رسول الله زنيت فطهرني. فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد فلم يطق صبراً، وعاد مرارا يقول: يا رسول الله  طهرني. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه: أبه جنون؟ قالوا: يا رسول الله ما علمنا به بأساً.. فقال: أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه وشمه فلم يجد منه ريح خمر، فأمر به أن يرجم.. فرجم حتى مات.
لما صلوا عليه ودفنوه، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه ولم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار قد أحرقته الشمس  حتى انتفخ وارتفعت رجلاه، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالا: نحن هذان يا رسول الله. قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار. قالا: يا نبي الله! غفر الله لك.. من يأكل من هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل الميتة، لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها  .
إرادة التطهير تملكت ماعز -رضي الله عنه- ودقة التحقق كانت متوفرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدث ذلك أيضا مع الغامدية التي جاءت وهي حبلى من الزنا إلى رسول الله تقول له: زنيت فطهرني. فلما تحقق قال: اذهبي حتى تضعي، فوضعت ثم جاءت تحمل ولدها  : طهرني يا رسول الله. قال: اذهبي حتى تفطمي ولدك، فذهبت  ثم عادت بولدها وفي يده كسرة خبز، قالت: طهرني يا رسول الله. فأمر بها فرجمت حتى الموت. فخاض فيها من خاض، فقال النبي الكريم: لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم.. وهنا تجلت رحمة القائد الحكيم أمام الإصرار على التطهير من المعصية عند المحكوم .
ولقد رأى عمر بن الخطاب إبلا ترعى في حمى المسلمين يوما، فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل هي لعبد الله بن عمر، قال: ائتوني به. لما جاء استجوبه وحقق معه  قائلا: لمن هذه الإبل؟ قال هي إبلي اشتريتها بمالي. قال عمر: لقد سمنت هذه الإبل باسم والدك.. ارعوا إبل بن أمير المؤمنين، اسقوا إبل بن أمير المؤمنين. هل تعرف لماذا سمنت هذه الإبل؟ لأنك ابني. ثم إصدر قراره: بع هذه الإبل، وخذ رأس مالك، ورد الباقي لبيت مال المسلمين.
فعل ذلك عمر بن عبد العزيز مع والده حينما اتخذ خاتما بألف درهم، فلما علم بذلك أرسل له كتابا يلومه ثم يقول له: بعه واطعم بثمنه ألف جائع، والتمس لك خاتما من حديد، واكتب عليه رحم الله أمريء عرف قدر نفسه.
ذلك كان مجتمع مهاب الجانب، قوي الحجة، متين الخلق، رفيع الدرجات، رَجًاع إلى الحق، يملك إرادة التطهير وتوفيق  المطهر ".. رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة:108). رجل وامرأة، شاب وفتاة، أبيض وأسود، فقير وغني، ضعيف وقوي، حاكم ومحكوم.
أما مجتمعات اليوم للأسف.. الزاني يُكرم، والقاتل يُبرأ، والسارق يُمرر، والظالم يُرقى. أين إرادة التطهير وحكمة المُطهر؟ أين اعتراف المتهم وضمير القاضي؟ هل من قاتل يقول طهروني فيسلم نفسه للعدالة؟ هل من سارق الوطن  ينادي طهروني فيسلم أمواله للدولة؟ هل من ظالم يخاطب نفسه طهروني فيتخلي عن ظلمه؟ هل من زانٍ يعود إلى ربه ويستغفر من ذنبه؟ هل من عفيف يترفع عن حمى غيره؟
اللهم يا علام الغيوب ويا غافر الذنوب تُب علينا لنتوب، ونقنا من الذنوب، وطهرنا من العيوب.

الكاتب صوت الناس الاخبارية on 2:25:00 م. يندرج تحت تصنيف . يمكنك متابعة هذا الموضوع عبر RSS 2.0

المتابعون


hit counter

الأكثر قراءة

2010 BlogNews Magazine. All Rights Reserved. - Designed by SimplexDesign تعريب و تطوير نيوز سبارو للخدمات الإعلامية